الحمار يعلن الإضراب
الحمار يعلن الإضراب بقلم:مهند صلاحات
قصة قصيرة
هنالك في إحدى القرى البعيدة التي يجهلها الجميع ولا يعرف ماذا يحدث بداخلها, كان هنالك قرية تدعى (منهوبة) قام المسؤولين بتقسيم القرية إلى مزارع ووضعوا بينها حدود لا يمكن العبور من هذه الحدود إلا بجواز سفر, ولا يسمح لهذه المزارع بالاتحاد إذا دعت الحاجة لذلك حتى لو بين مزرعتين فقط, رغم أن جميع الفلاحين في تلك المزارع يتكلمون نفس اللغة ويشتركون جميعهم في مصير مشترك يجمعهم جميعا, فأي خطر يمكن أن يتهدد أي من تلك المزارع سيهدد بقية المزارع.
ولكن المسؤولين الكبار رأوا أن تقسيم القرية إلى مزارع سيهل السيطرة عليها إدرايا واقنعوا رجالها بهذا العمل حتى أصبح كل رجال القرية ينادون بالانفصال عن بقية القرية وإنشاء مزرعة مستقلة لها عاصمتها وعلمها المستقل.
لم يكن سهولة إدارة القرية هو السبب الحقيقي وراء تقسيمها إلى مزارع وتشجييع النعرات الانفصالية فيها, لكن هنالك أسباب كان الجميع يجهلها أصحاب المزارع التي قسمت, وهو أن المسؤولين الكبار يقومون على تقسيم القرية فيما بينهم وينون تعيين حاكم إداري لكل مزرعة على حدا يتوجونه على انه زعيم فاتح وثائر منقلب على رجعية الإقطاعيين التقليديين في المزارع.
بالفعل ففي ليلة حالك ظلامها اجتمع القادة الكبار في قصر أحدهم واتفقوا على التقسيم ورسموا الخرائط التي قسمت القرية بطريقة هندسية جميلة وحتى أن بعضهم قام بتعيين مندوب سامي ومعه عدد من الرجال المرتزقة يقومون بمهمة دخول المزرعة لقمع من يحاول إثارة الشغب فيها ضد المندوب السامي أو يحاولون ضرب مصالح المسؤولين الكبار الذين يسرقون خيرات المزارع دون رقيب أو حسيب وسمي هذا الاتفاق الكبير بين المسؤولين ( سايق فيكم ).
تمت عملية التقسيم فعلا بعد ثورة عارمة قام بها أحد الهاربين من القرية السابقين بالتعاون مع المسؤولين الكبار ودخل مركز القرية فاتحا بوعود بجعله مختارا للقرية كلها من المسؤولين.
لم يكن يعرف هذا الرجل أن المسؤولين بصدد تقسيم القرية إلى مزارع ولن يكون له نصيب سوى في أن يكون أن يكون مزارعا مسؤولا عن أحد المزارع شأنه شأن بقية رجال المزارع الآخرين.
لم يقف الآمر عند هذا الحد فقط بل أن المسؤولين الكبار جعلوا للجيش الذي شكله هذا الرجل من أبناء المزرعة رئيسا أجنبيا من عندهم يقوم بالأشراف على تدريب الجيش ويتدخل في شؤون إدارة المزرعة.
في المزارع الأخرى بدأ الفلاحون الثوار يثورون على الحكام الجدد, فقامت المظاهرات منددة بهذا التقسيم.
وثارت المزارع وعمها الفوضى من كل النواحي وبدأت الإدارات المحلية برجالها المدججين بالسلاح حتى أنوفهم بقمع المظاهرات وفتحت أكواخا صغيرة أسمتها معسكرات اعتقال تضع فيها من يحاول أن يكتب على جدار أو يقيم مظاهرة أو يحمل بندقية صيد في وجه رجال الإدارة المحلية.
نجحت بعض الثورات وهبطت بعدها إلا أنه في النهاية قام المسؤولين بتعيين رجل من كل مزرعة مختارا لمزرعته يدير شؤونها ويقوم برعايتها ورعاية السكان فيها والحيوانات.
دارت الأيام وسار قطار الزمن مسرعا والوجوه تتبدل والأشخاص تتبدل لكن الشيء الوحيد الذي لم يتبدل هو كرسي المخترة الذي بدأ يتناقله الابن عن أبيه في حكم المزرعة.
مضت السنين وفقد المسؤولين سيطرتهم على المزارع وقطعت معظم علاقاتهم مع عملائهم في داخل المزرعة بعد صراعات دامية خاضها الكبار فدمر بعضهم بعضا.
في هذه الأثناء ظهر هنالك سوق كبير فرض سيطرته على المزارع بفضل إتباعه سياسية اقتصادية قذرة أسماها اقتصاد السوق استطاع أصحاب السوق المركزي من السيطرة على المزارع والتحكم برقاب سكانها وحتى حيواناتها وبفضل أيضا تأمر مخاتير هذه المزارع مع هذا السوق المركزي الاستغلاليين الوحوش .
في إحدى تلك المزارع كان هنالك مختار مشاغب لم يحبه أحد لأن سياسته قاسية, يمكن أن يطلق النار على أي مزارع رفض العمل في الزراعة, يعامل المزارعين على أنهم عبيد, يسرق تعبهم وعرقهم وخيرات أرضهم ليشتري بها ملابس جديدة وبنادق صيد لرجاله وكلابه الملتفون حوله يحموه,
ولكن وفي مفاجأة أستغربها الجميع قامت إدارة السوق بالانقلاب على عميلها وإفقاده السيطرة على المزرعة, فعمت المزرعة فوضى عارمة وبدأ الملتحون الذين قدموا من مزارع مجاورة إلى جانب الرجال الذين بعثتهم إدارة السوق المركزي بنشر الرعب وقتل البشر و إطلاق النار فغدت الحياة لا تطاق في المزرعة.
تمكنت إدارة السوق بعد فترة بفضل رجالها المسلحين من السيطرة على الوضع وأجرت انتخابات فاز بها أحد الفلاحين لإدارة المزرعة وباشر هذا الفلاح البسيط عمله بتوجيه الفلاحين .
إلا أن هذا الفلاح تحول بعد فترة إلى استغلالي يسرق محاصيل الفلاحين ويتحكم بسعر بيعها لهم في السوق المركزي باعتباره المفوض الوحيد بالتعامل مع السوق .
كان لهذا الفلاح حمار قوي البنية يقوم على خدمته في أمور الزراعة ونقل البضائع ليل نهار ويقوم على خدمة أبنائه وينقلهم من مكان لمكان لا يراعي أحد من أبناء الفلاح أو الفلاح نفسه ميعاد لنوم هذا الحمار أو حتى في طعامه وهل أكل أم ل ما نوع الطعام المقدم له وهل وضعوا له ماءاً ليشرب أم لا.
في أحد الأيام جلس الحمار يفكر بعد عودته من رحلة مكوكية شاقه أخذه بها أحد أبناء الفلاح ليرى صديقته في المزرعة المجاورة, أحس الحمار أن الفلاح يسرق تعبه ويأكله أبناء الحمار المدليين وان صاحب المزرعة يستغل الحمار لصالح أصحاب السوق المركزي الذي يذهب صاحب المزرعة يوميا لتقديم الطاعة لهم حتى يسمحوا له ببيع بضائع في السوق رغم معرفته بأنهم يسرقون بضائعه ويستغلونه ولكن لا يجرؤ على الكلام.
قرر الحمار الثورة على الفلاح لتحقيق حياة أفضل وأيقن تماماً أن الثورة هي الطريق الوحيدة ليحقق الحرية والحياة الفضلى والطموح المنشود, وأطرد في نفسه قائلاً :
إني أعجب حقا من أمر هؤلاء الفلاحين البقية كيف ينام أبنائهم جائعون ويفيقون هم على ذلّ هذا الفلاح الاستغلالي لهم ولا يحركون ساكنا, مع أنهم لو أضربوا عن العمل يوما واحدا لتوقف إنتاج المزرعة وخضع الفلاح لهم يترجاهم أن يستكملوا العمل كي لا يغضب سادته أصحاب السوق المركزي منه, وقرر أن يخوض إضرابه وحيدا مؤمنا بأنه سيحقق نتائج مبهرة.
في صباح اليوم التالي استفاق الفلاح على نهيق عالي للحمار غير المعتاد,
لبس الفلاح ملابسه وأستعد للخروج لأرجاء المزرعة ليتفقد الفلاحين وماذا فعلوا وماذا حصدوا وزرعوا ويحمل ما قطفوه من إنتاج إلى السوق المركزية ويبيعها.
دخل الفلاح إلى زريبة الحمار فوجد الحمار يعلق لوحة مكتوب عليها ( لن أستمر في العمل في ظل اضطهاد سيادتكم لنا ... اليوم نلعن الإضراب المفتوح عن العمل حتى تحسين ظروف معيشتي )
تفاجئ الفلاح من تصرف الحمار وغضب غضباً شديداً منه, وضربه ونكل به مع أبنائه ومنع عنه الطعام.
مضى يومين والحمار المسكين صامد في زريبته بدون طعام وماء, بنفس الوقت كل أعمال الفلاح توقفت وأضطر أبنائه للسير مسافات طويلة دون أن يجدوا من يحملهم على ظهره ويريحهم من عناء السفر.
أحس الجميع بحاجة هذا الحمار وحجم الخدمة التي كان يقدمها لهم فعادوا للبيت جميعا وقرروا عقد اجتماع عاجل لتدارس الأوضاع.
في هذه الأثناء قطعت زوجة الفلاح إحدى زياراتها الخارجية لإحدى المزارع الأخرى وعادة مهرولة لبيت زوجها, في حين كان أحد أبنائها يقعد مؤتمرا صحفيا مع الفلاحين يعلن فيه أن الفلاح وأبنائه قرروا فتح باب للتفاوض حتى يقنعوا الحمار بالعودة للعمل مجددا بعدما توقف العمل بسبب تراكم الإنتاج في المزرعة ولم يجدوا من ينقله للسوق, صفق الفلاحون بحرارة وهتفوا للفلاح الأب بطول العمر والبقاء وفدوه بالروح والدم وجددوا البيعة له و لأبنائه, وفي اليوم التالي :
أنتدب الفلاح اثنين من أذكى أبنائه لمفاوضة الحمار وإقناعه بالعودة للعمل بالشروط التي يريدها.
على الرصيف كان ولد من المزرعة يبيع الجرائد يصيح بأعلى صوته ( اقرأ أخر الأخبار آهل المزرعة يجددون بيعتهم للفلاح الأب و أبنائه ويشكرون حكمته في إدارة شؤون المزرعة )
ولد أخر ينادي ( الفلاح الأب وإدارته الرشيدة يبدأون التفاوض مع الحمار الثائر للعودة للعمل )
دخل أبناء الفلاح على زريبة الحمار المنهك من الجوع والعطش وبدأت حلقات التفاوض.
سلم الحمار أبناء الفلاح لائحة بالمطالب التي يريدها وشددّ على مطالبه وأنه لن يعود للعمل إلا بتحقيق كامل المطالب الشرعية في اللائحة وانه مستمر في إضرابه حتى الموت.
بعد يوم حامٍ من المشاورات بين الفلاح وأبنائه قرروا الموافقة على شروط الحمار.
في اليوم التالي كان بائعي الجرائد ينادون :
( نجاح ثورة الحمار على الفلاح وأبنائه )
( الحمار يحقق مطالبه عبر الإضراب والصمود على الجوع والعطش )
( إضراب الحمار يتمخض عن كسر إرادة الفلاح وأبنائه وتحقيق مطالب الحمار )
لقد ثار الحمار على الفلاح و أبنائه وحقق مطالبه المشروعة وحقق له الإضراب :
تحديد ساعات عمله اليومية وتقديم نوع افضل جودة من الحشائش له وتقديم ماء نظيف له في أوقات منتظمة.
والعمل ضمن شروط الحمار وحسب طاقته وقدرته.
مراعاة مزاج الحمار في العمل
الذهاب للطبيب البيطري وإصدار شهادة للحمار باسمه وشهادة خلو أمراض له.
السماح للحمار بالانضمام لجمعيات حقوق الحيوان المحلية والعالمية.
السماح له بتقديم طلبات انتساب لجمعيات حقوق للحمير دولية ومحلية.
الاعتراف بالحمار ككيان مستقل له خصوصيته الشخصية.
السماح للحمار بتأسيس حزب يقوم على انتقاد أداء الفلاح و أبنائه.
منع تدخل أصحاب المزارع الأخرى أو أصحاب السوق المركزي في شؤون الحمار الداخلية وطبيعة عمله.
لقد ثار الحمار قبل أن يثور أبناء هذه المزارع وتلك من المفارقات العجيبة حين يتحول
الحمار إلى مجموعة صغيرة من المواطنين في بلد عربي
وتحول صاحب المزرعة إلى حاكم عربي
وتحول أبناء الفلاح المدللين إلى حاشية الحاكم وإلى أبناء العائلة الحاكمة
وتحول أصحاب السوق الاستغلاليين إلى أمريكا.
فحين نصل لمرحلة نفكر فيها في عقولنا قبل بطوننا ... نحقق ثورة الجياع وحفاة الأقدام