استوصوا بالنساء خيراً الزوجية سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، لا يشذ عنها عالم الإنسان، أو عالم الحيوان أو عالم النبات:{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }(الذاريات49)، وهي الأسلوب الذي اختاره الله لاستمرار الحياة، وأجمل ما يمكن أن تطالعه من كلام على الحياة الزوجية والأسرية تقرأه في قوله عز وجل
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الروم21)، وفي تفسيرها ورد عند الإمام القرطبي قول السُّدّي
المودة هي المحبة، والرحمة هي الشفقة)، وقول ابن عباس
المودة هي حب الرجل امرأته، والرحمة هي رحمته إياها أن يصيبها بسوء).
وانظر إلى هذه الحميمية في قوله سبحانه وتعالى
مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، والتفت إلى الطمأنينة التي تسري من قوله تعالى: (لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، وستحس أنها أساس الزواج السليم حين تقرأها من جديد في آية أخرى
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ) (الأعراف189)، من جديد تقرأ
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، كما ستتكرر(مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) في آية سورة النحل
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ) (النحل72)، وفي سورة البقرة
هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
لا رهبانية في الإسلام:وقد رغب الإسلام في الزواج، واعتبره من سنن الأنبياء وهدى المرسلين، وفي حديث الترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
أربع من سنن المرسلين:الحناء، والتعطر، والسواك، والنكاح ).
وضمن لمن يريد بنفسه العفاف عن المحارم عون الله فيما يقدم عليه، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)، فساوى بين المجاهد في سبيل الله والذي يريد سداد ما عليه من ديون، والذي يريد العفاف، واعتبر المرأة خير كنز يضاف إلى رصيد الرجل، ويروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة )، ويرفض الإسلام التبتل واعتزال النساء، والرهبانية المنافية لطبيعة الإنسان، ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك مناف للفطرة، ومغاير للدين، وأنه صلى الله عليه وسلم وهو أخشى الناس لله وأتقاهم له، كان يصوم ويفطر، ويقوم وينام ، ويتزوج النساء، وأن من يخرج عن هديه فليس له شرف الانتساب إليه، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا ،كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم:أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
الزوجة الصالحة شطر الدين:والزوجة الصالحة فيض من السعادة يغمر البيت ويملؤه سرورا وبهجة وإشراقا، فعن أبي أمامة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة:إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء).
والزواج عبادة يستكمل الإنسان بها نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والنقاء، فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي).
البيت السعيد:وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكثير الذي يعلمنا كيف نكون مع أزواجنا، وقراءة لأخلاقه في بيته، وسلوكه مع زوجاته، وتعليمه للزوجين، وتوجيهه للأبوين، تمكننا من وضع القواعد التي ينبني عليها بيت سعيد، وحياة زوجية سليمة، داخل البيت المسلم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الكامل والأسوة الحسنة للرجال في حسن معاشرة النساء أزواجاً وبنات، وبلغ من عظم هذا الأمر أن جعله عليه الصلاة والسلام إحدى وصاياه لأمته في خطبة الوداع
اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) (رَوَاهُ مُسْلِم)، وهو أمر للأزواج والآباء والإخوة والناس أجمعين بأن يستوصوا بالنساء خيراً، وأن يُحسنوا إليهن، وألا يظلموهن، وأن يعطوهن حقوقهن، ويوجهوهن إلى الخير، فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)، والمقصود ألا يسمعها المكروه، ولا يشتمها، ولا يقول: قبحك الله ونحو ذلك.
وروى ابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح مرفوعا
ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عَوَانٌ (أي أسيرات) عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن).
وقد وضع لنا رسول الهدى ونبي التقى صلى الله عليه وسلم أسسا لبناء الحياة الزوجية، من تقدير واحترام، وتودد ومحبة ومكارم أخلاق، وما أكثر المواقف التي توضح المحبة والمودة في حياته صلى الله عليه وسلم لأزواجه ورقته ورحمته في التعامل معهن، وقد كان عليه الصلاة والسلام يشارك أزواجه في الشراب من كأس واحدة، ويشرب مما تشرب منه زوجته، وتحكي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حالها مع زوجها الكريم صلى الله عليه وسلم فتقول رضي الله عنها
كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه (أي فمه) على موضع فيّ فيشرب)، وكان صلى الله عليه وسلم يُطعم زوجاته ويسقيهن بيديه الكريمتين الشريفتين الطاهرتين، ويقول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما زاره في بيته وهو مريض
حتى اللقمة تضعها في في امرأتك يكون لك بها صدقة).
الرسول قدوتنا:وبلغ من حسن معاشرة الرسول صلى الله عليه وسلم لنسائه أنه كان يخدم في بيته ويقضي حوائجه بيده، ويتبرع بمساعدتهن في أمور البيت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح ويمسي في خدمة أهله، وأخبرتنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجل في بيته، ويرقع دلوه، ويغلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه)، وسئلت عائشة عنه: ما كان يصنع في بيته؟ قالت:"يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة"، (رواه البخاري).
ولم يذكر عنه أنه ضرب أحداً من نسائه، بل قالت السيدة عائشة رضي الله عنها
ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط)، وهي التي قالت عنه صلى الله عليه وسلم
كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان بسّاماً).
وكان صلى الله عليه وسلم يلاعب ويداعب ويلاطف زوجاته، ففي بعض أسفاره صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: تقدموا، فتقدموا، ثم قال للسيدة عائشة رضي الله عنها: تعالِ أسابقكِ فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعد خرجت أيضاً معه في سفر، فقال لأصحابه تقدموا، ثم قال: تعالِ أسابقكِ ونسيت الذي كان، وقد حملت اللحم، فقلت: وكيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال، فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة".
طاعة الله أساس السعادة الزوجية:وطاعة الله لها أثر كبير في الألفة والمحبة بين الزوجين، والمعصية لها أثر عجيب في كثرة المشاكل والخلافات وعدم الوفاق بين الزوجين، وتحكي لنا كتب السنة والسيرة تعاونه صلى الله عليه وسلم مع أزواجه في أمور العبادة كالصلاة والصدقة ونحوها من الفرائض والمستحبات ومنها التعاون في قيام الليل، وكان عليه الصلاة والسلام يقول
سبحان الله، ماذا أُنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صويحبات الحُجَر، فرب كاسيةٍ في الدنيا، عارية في الآخرة)، وكان يدعو لرجل أشرك أهله في صلاة قيامه بالليل ويقول
رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء)، وقال صلى الله عليه وسلم
إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات)، وكان يحض الزوجين على الصدقة وهي من أزكى الطاعات فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدةٍ، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً